الاثنين، 20 يونيو 2016

الغزو الداخلى





كيف يمكن للأفكار أن تدمر دفاعاتك النفسية أو توهمك بما ليس فيك .. كيف تجعلك تظن انك ما فعلت خيرا قط .. وما نجحت ولا أحببك أحد .. الأسترسال مع أفكار الذات خصوصا حينما تكون معتادة على القسوة معك والجلد يجعلك أسوء لا شخص أفضل .. انها تجعل عضلات وجهك متشنجة وفى حالة صراع مع إنك تجلس فى مكان هادىء والجو به نسمة حلوة وما من الآلام جسدية حقيقية توجعك .. احيانا اتعجب من سطوة هذه الأفكار على النفس وصراخها العالى وكأنها تدفعك بقوة خارج منطقة السكينة والسلام كى تغرق فى ظلام أسود .. دائما أقول عند أشد الخواطر اليائسة سواء على ماضى تسرب من يدى أو خوف من تجربة جديدة أنها مجرد (أفكار) يمكن التخلص منها (ولن أدعى بسهولة) .. لكن حقيقة انها (فكرة) تطمئن القلب قليلا وتجعلك تحاول دفعها .. أحيانا تأتينى أفكار عن نضوب نبع الكتابة وجفاف القلم ويتصاعد حاجز نفسى يمنع الكلمات من الإنسياب بإريحية على الورق كما أعتادت أن تفعل.. حينما يتصاعد صوت داخلى يشوش على أفكارى الرائقة ويصدر فكرة واحدة سلبية فى رأسى فلابد من حشد الجيوش وإعلان الحرب النووية الشاملة على هذا الشعور أو الصوت أو أيا يكن ...

هناك غرفة سرية عميقة بداخلك محاطة بأسوار وحراس بطول الجبال .. هذه الغرفة هى ذاتك متجردة من كل التصورات المجتمعية والمقارنات وتبدل حالك بتغير الزمن .. هى غرفة يحرص الإنسان على مكانها السرى بعيدا حتى عن شخصه هو لو لزم الأمر كى لا يؤذى نفسه .. وذلك بأن تشوش على الأفكار الدخيلة التى تبحث بإصرار عن غرفتك السرية ..  تقذف بصواريخ نارية إلى مكان بعيد كى تتبع الأثر الخطأ .. تدفع بالحراس الاشداء كى يركضوا ورائها ولا يتركون فكرة واحدة تتسلل .. تفتح السدود وتجعل الكلمات تنهمر دافعة بالأفكار إلى الخارج .. لابد أن تكون فى حالة مقاومة من بداية المرض وليس حينما يستفحل .. لذلك كلمة (جهاد النفس) فى المعتقد الأسلامى دقيقة وتوحى وكأن رايات الحرب النفسية لا تنزل ابدا .. انك لابد أن تكون منتبها ومدرك طوال الوقت لمن يعبث برأسك .. هل هى فكرة خبيثة تتسلل بغير صوت حتى تكون سيدة المكان؟ .. أم تملك أسوار قوية من الإيمان بالله والثقة بالنفس والغاية الواضحة التى يملأها الحب والشغف وتتجرد من كلمات بلا قيمة (كالشهرة) و(التميز) .. لاحظ هنا إنك لا يمكن أن تحارب بغير سلاح وأن (الفكرة المدمرة) هى أصلا شعور مركب متصاعد من الداخل .. لذلك يجب أن يكون تدريباتك النفسية منظمة طويلة المدى وجنودك متمرسة تعرف كيف تتصرف سريعا حينما تهاجم الفكرة .. تمسك القلم وتكتب .. تنهمك فى العمل .. تسافر كى تدفع بالأفكار من فوق جبل أو تنثرها فى سماء واسعة مليئة بالنجوم .. تتابع قضية وتتفاعل معها .. تجلس وسط الناس وتراقب أفعالهم وكل خلجة فيهم حتى تبدأ أفكارك فى تحويل مسارها إلى قصص وحكايات عنهم .. المهم أن تملك خطة معتادة فى تلك المواقف .. كن مع قلمك أو الناس أو الطبيعة .. هذا سيجعل أفكارك يعاد تشكيلها وتصبح ناضجة وربما كان هذا أفضل من الجهد النفسى (الذى يفشل عادة) فى محوها من رأسك.  

فى رأيى لا يوجد إنسان غير العالم إلا وملك صفة وحيدة فقط .. انه مقاتل من الدرجة الأولى .. ليس بالموهبة ولا بسنين الخبرة ودائرة المعارف .. ولا بكم الانجازات والنجاح المتتالى .. هو فقط يملك روح مقاتلة عنيدة مصرة أن تكون سعيدة ولا تسمح أن تُدفن فى مكان لا ترى فيه الشمس .. هولاء الناس أراهم فى كلامهم اليومى العادى وكتاباتهم وحتى بريق أعينهم .. نمور متحفزة مستعدة لتمزيق من يقترب من عرين ذاتها .. لذلك كان بناء الجبل الداخلى أهم ألف مرة من تلميع صورتك حتى لو مكثت سنين طويلة  لا يعلم أحد عنك ولا عن أخبارك وأختفيت وسط الزحام .. لقد ذهب الانبياء إلى الصحراء والكهوف وكانوا قبل أن يُنزل عليهم الوحى منهمكون فى البحث عن الخالق وربط أنفسهم به وحده .. لم يكن الانبياء الأكثر شهرة ولا مكانة حتى أن هذه كانت نقطة إستنكار من قومهم (وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم) .. الله عز وجل أختار معايير أخرى أصدق وأقوى وأثبت .. والدليل أن هولاء الرجال حملوا الرسالة مئات الأعوام (فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما) وسُجنوا (فلبث فى السجن بضع سنين) وقُتلوا ولم تُلمس غرفتهم النورانية الداخلية ..


ربما كان من الصعب فى هذا العصر الأختلاء بالذات والتأمل والزهد فى المقارنة بأحوال الناس وتجاهل اللوحات الاستعراضية التى تخنق أنفاسك حتى باتت وظيفة (الاستعراض) و(التسويق) تتصدر أى وظيفة أخرى ذات نفع حقيقى.. لقد حاولت مرة وأنا أسير على الطريق الدائرى أن أتجاهل بإصرار اللوحات الحمراء والصفراء التى تزعق فى وجهى بكافة الوسائل .. أردت أن أكون باردة مع الإبتسامات الخادعة وأبادلها تجاهلا .. وأن أوصل رسالة غير مباشرة لهولاء انه مهما تفننت فى إغرائى فلازلت أملك كامل الإرادة فى توجيه أفكارى .. يمكننا أن نسرد المشكلة وننوح كما نشاء عن ضغوط العصر وسرعته وانه يسير بنا ولا نسيره  .. لكن ستظل إرادتك دائما حرة تماما فى إنقاذ نفسك (متى أردت) ووضع خطة النجاة لعقلك وروحك.

الأحد، 19 يونيو 2016

كيف تفهم القدر






لماذا سميت الجنة بهذا الأسم .. أعتقد انها تأتى من الجنى حيث تجنى الفاكهة بعدما زرعت وتعبت فى سقيها وداومت على العناية بها .. أن ثمرة الفاكهة تبدأ فى الظهور فى لحظة مفاجئة .. انك لا تعلم متى وكيف خصوصا حينما تكون أول مرة تستنبت تلك الفاكهة .. بل تستعين بالصبر كأقوى سلاح كى تستمر فى العمل والإنتظار .. لكن من عاش تجربة الزرع أو الصيد يعجز أن يصف لك سعادته وهو يرى رأس الثمرة تشق الأرض أو تتراقص صنارته حاملة السمكة .. لقد رأيت أحدهم مرة فى أول تجربة صيد له يرتعد حرفيا من السعادة .. كان يفسر ذلك قائلا (لقد انتظرت طويلا وكنت اجلس فوق القارب والناس تمر حولى إما تتهامس ساخرة أو تنصحنى بألا أضيع الرحلة وأفعل شىء أكثر امتاعا .. فى اللحظة التى بدأت أنظر فيها للماء بيأس وأفكر فى ترك الصنارة وجدتها تهتز بقوة .. لقد شعرت وكأن هناك من يرد على صدى صوتى ويربت على كتفى ويهنئنى على الصبر .. الأمر أكبر من مجرد رد كرامتى والأنتصار على شماتة الناس .. هل تفهم معنى أن تجد من يرد على صدى صوتك الذى يأست من إجابته ؟!)..
 



حكى لى أحدهم ذات مرة عن قصته مع والده .. كان يقول :
(لم تكن علاقتى بأبى جيدة ابدا .. كنت احمل مراراة عظيمة تجاهه بسبب سنين طويلة من المعاناة والإهانة.. وكلما كبر زاد حمله وإحتياجه لى وحينما لم أجد له رصيد حب كافى قسوت عليه .. كنت أعرف أننى ارتكب خطأ عظيم وإننى سأدفع ثمنه فى حياتى وسعادتى وآخرتى .. وبالفعل أغلقت الأبواب فى وجهى سنين طويلة وكنت اضرب كفا بكف لما بعد كل هذا الجهد لا أحصل إلا على قطرات شحيحة من التوفيق .. عرفت انه ذنب أبى فزاد حنقى عليه لأنه لم يؤذينى فقط بالمعاملة بل بمرارة الذنب ..ثم فكرت فى سذاجة تفكيرى وإننى ألف فى دائرة مغلقة من التعاسة فقررت أن أفعل عادة يومية صغيرة من البر .. بدأت فى توصيل أبى إلى عمله وكان هذا الأمر كحمل جبل على قلبى رغم ان المسافة لا تتعدى ربع ساعة .. وكل يوم أقوم على مشاجرة نفسية (أصبر .. لا أريد الصبر أنا حر فيما أفعله .. الله سيعوضك بسعادة ويرضى عنك .. لا أريد أن أكون مسئولا عن أحد .. انه بحاجة إليك .. أريد الهروب من هنا) .. ومرت الأيام وبدت انها دوامة ابدية من الضيق وقهر النفس على ما لا تطيقه .. ثم يوما ما أستيقظت فى ساعة متأخرة واستغربت لأن أبى أعتاد أن يوقظنى قبلها .. نظرت فى الساعة ثم ناديت عليه فلم أجده .. ثم تذكرت انه كان بائتا فى الخارج تلك الليلة .. حينها شعرت بحزن عجيب فى قلبى وقلت (أين أنت يا أبى) .. كانت لحظة مفاجأة من الفهم .. لقد بدأت أحب أبى وأحب بره .. لم أكن أتخيل أن يأتى اليوم الذى أفتقد فيه بره وأكون حريصا عليه .. ثم وجدته بعد نصف ساعة يهاتفنى ويطلب منى أن أذهب إليه فسعدت للغاية .. سعدت بإننى تغيرت لما أردت أن اكونه .. سعدت أن الله عز وجل رزقنى ثمرة الصبر وأبدل المرارة برحمة لم أعرف حلاوتها ابدا .. ثم فى يوم بعدها بفترة دخلت غرفتى فوجدت أبى وأمى نائمين .. كنت فى الماضى أعتبر هذا احتلالا وقحا لغرفتى لابد من فضه فورا .. ولكنى فوجئت تلك الليلة بشعور جديد وكأن هناك رحمتان تطوفان بالغرفة .. دخلت وأنا أشعر بإننى اريدهما هنا للأبد كى أشعر بالأمان والسكينة .. أن أكثر ما أعجب منه فى تلك التجربة هى اللحظة التى تفصل ما بين شاطئى الشقاء والسعادة .. كم هى مفاجأة وتحدث حينما لا تكون منتبها وغارقا فى تحمل صبرك).


الله عز وجل علم الانبياء الذين تعجلوا أن الصبر هو وسيلتهم للفهم .. فى قصة سيدنا موسى مع العبد الصالح اتأمل كثيرا قوله حينما أنهى عجائب حكايته (ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا) .. سيدنا موسى يتسائل عما يراه شرا واضحا .. الإيذاء .. القتل .. هو يفكر فى أبعاد اللحظة الحالية .. فى مشهد واحد يحدث أمامه بكل بشاعة .. لكن القدر ليس لقطة بل قصة لها زمن .. السفينة ستنجو لوجود عيب فيها .. وحزن البيت على الغلام انقلب بعد سنين طمأنينة وسعادة لم يعهدوها قبلا ... يبدو الأمر وكأنه مفاجأة ولكن الآلام القدر ذاته كانت مقدمة ضرورية للوصول إليها .. أكثر قصة تثير عجبى قصة سيدنا يوسف .. يحكيها الله عز وجل كأروع فيلم يمكنك ان تشاهده .. ربما كانت هناك لقطات كثيرة محذوفة فى المنتصف لكن الله عز وجل تخير ما يجعلك تربط نقاط القدر.. أحدهم نبهنى مرة لحبكة (القميص) الموجودة طوال القصة .. حينما أتى أخوة يوسف على قميصه بدم كذب كى يبرأوا أنفسهم .. وحينما برأ القميص سيدنا يوسف من تهمة الزنا .. وحينما أُلقى على وجه النبى يعقوب فأرتد بصيرا .. لماذا هو موجود طوال القصة وكأنه يترك علامة فى كل مشهد كى يتتبعها من يقرأ القدر .. هل فى قدر كل منا رمز يجب تتبعه كى نفهم .. كالفقد المتكرر أو المبتلى بالمرض .. تتبع آثار القدر يتطلب ثقة حقيقية فيمن وضعها لأنك طالما تشك ستقف كثيرا وتنشغل فى شكك بوجود الكنز من الأساس بدلا من الصبر على تتبع الأثر والوصول .. لن تستطيع الصبر طالما لست واثقا فى الله .. ولن تثق سوى حينما تعرفه وهذا فى ذاته يتطلب الكثير من الصبر .. هما الإثنان ينغرسان فى قلبك معا ..




ذات مرة صعدت الجبل فرأيت غرفة صغيرة ذات جدران بيضاء قابعة فوق قمته .. كانت بعيدة جدا لكن إرتفاعها وقربها من السماء حفزنى .. شعور الصبر غريب لا يمكنك فهمه لإنك رغم معاناتك  تستمع وكلما تألمت يتصاعد صوت داخلى يضغط على الألم فيبدو وكأنه يبتعد تحت طبقات نفسية أقوى منه ..ثم جاءنى خاطر.. أليس الله فوق قمة الجبل بكثير؟! .. لماذا اتحمل فى إصرار كل المشقة للوصول لتلك الغرفة بينما أريد أن أرى الله بعد ركعتين أموت بعدها فى سلام .. ما أوقن به أنه لن يرى الله سوى من وصل للحظة إخلاص حقيقية ولو مرة .. إخلاص فى حبه وشكره والثقة به والإستسلام له .. ربما نظن أن تلك اللحظة سهلة لكن هناك قصة حكاها عمر طاهر مرة  أفهمتنى الكثير .. يقول : تعرفت على صديق أخذ يحكى لى عن قصة ادمانه .. فكان يؤكد: (لقد كنت أشعر بسعادة بالغة وأذهب لعوالم لم يراها البشر) فتوقف عقل عمر طاهر هنا وأتاه شك داخلى (كيف يمكن للسعادة التى نتحمل أصعب تجارب الحياة كى نجدها يأتى الآن من يخبرنى انه بحبة حصل عليها) .. أكمل صديقه الحكاية : (وفى يوم زدت الجرعة قليلا فوجدتنى أقف أمام باب وسط الحياة والموت وأصرخ كى يفتح أحد .. لم أرى يأسا فى حياتى مثل تلك اللحظة) .. سأله عمر :(كيف توقفت؟!) ٬ قال (بعد سنة من الأدمان وجدت انى فقدت ثقة رؤسائى .. ورأيت نظرة خزى فى عين جار أحترمه .. وتركتنى الفتاة التى أحببتها .. وجدت اننى اتحول لشخص لا أعرفه ولا أريده وقد آن آوان استعادة نفسى) .. سكت عمر ثم قال فى النهاية (أشكرك) .. سأله فى استغراب (على ماذا؟!) .. قال :(أنك أثبت ما كنت اؤمن به .. أن السعادة ليست مجانية).

الجمعة، 8 مايو 2015

رحلة كاترين - الجزء الثانى






المبيت ..

نزلت من فوق الجبل لحجرة المبيت .. كانت واسعة وإن لم تحوى إلا دفاية صغيرة وأكياس النوم التى صعد بها المرشد البدوى مع الجمال ..  تزايد البرد كثيرا (أشك انه كان تحت الصفر لأن الماء تجمد وقتها) ولبست كل ما حملته معى من ملابس ولم يؤثر .. انددست تحت كيس النوم ولازلت أرتعد من البرد .. حاولت الخروج مرة أو مرتين من الغرفة لكن الجو كان أكثر صقيعا بالخارج والسماء انطفأت فيها النجوم تماما .. كانت ليلة كابوسية وظلت تراودنى أفكار ومشاعر سيئة كثيرة حاولت مقاومتها فلم أستطع .. وفى آخر الليل أجهدت تماما من التفكير والبرد فأنعم الله على بالنوم ولم استيقظ إلا على الفجر .. فى وقت آخر من الرحلة كنت أحدث صديقة عن ذلك الأمر فأخبرتنى أن ما حدث شعور طبيعى .. الإنسان حينما يبرد كثيرا تأتيه هلاوس كأنها انذار له كى يتحرك لأن البرد خطير على جسم الأنسان .. أخذت أهون على نفسى وادرك كم أقسو عليها فى حين أن ربنا أرحم من ذلك .. لا يحاسبنا على أفكارنا ولا ضعفنا ويغفر لنا كل شىء .. فلما أحمل نفسى من العذاب ما لم يفعله الله بى .. احيانا افكر انه ربما غدا سيحدث كذا .. ربما ستقع تلك الطائرة .. ربما سيصطدم المترو بالذى يجاوره ..ربما سينقلب الأتوبيس .. أغمض عينى من الخوف لكن دائما الفجر يأتى فى النهاية .. يذهب الخوف والتعب وتأتى رحمة الله .. لا يوجد موقف ابدا رأيته فى حياتى كنت فيه فى قمة العذاب وإلا وآتت رحمة الله تربت على قلبى وتطمئننى بوجوده ورعايته .. وحدث فعلا بعد تلك الليلة أن آتى الصباح وذهب التعب وكأنه لم يكن وبدأت استعد لرحلة جديدة ..

رحلة الهبوط ..
تحركت المجموعة وفطرنا فطارا شهيا .. كانت اجسادنا صاحية وأخبرنا المرشد أن الهبوط سهل جدا لكن ننتبه جيدا لموقع أقدامنا حتى لا تزل مع سرعة انزلاق الصخور .. تلك المرة الأمر كان واضحا .. اتبع الطريق الذى تجد الصخور فيه ممهدة أكثر من غيره .. بدأت اسبق المجموعة وأسمع اصواتهم من بعيد .. فى البداية مللت وأردت ان اسرع كى نصل بسرعة لكن بدأت الجبال تلفت انتباهى .. كان هناك جبل أسود تقريبا تحته سهل عميق للغاية .. المنظر يبدو مهيبا وبدأت اتخيل سيدنا موسى عليه السلام هنا .. هذا المكان قد حدث فيه شىء لأنه يبدو مختلفا كثيرا عما حوله .. بدأت اقرأ سورة (طه) بتركيز فى كل آية وأتخيل أحداثها .. (وهل آتاك حديث موسى .. إذ رأى نارا فقال لأهله أمكثوا إنى آنست نارا لعلى آتيكم منها بقبس او أجد على النار هدى .. فلما آتاها نودى يا موسى .. إنى انا ربك فأخلع نعليك إنك بالوادى المقدس طوى ... وأنا أخترتك فأستمع لما يوحى ..إننى انا الله لا اله إلا انا فأعبدنى وأقم الصلاة لذكرى) ... تخيل أن هذا المكان قد سمع الله عز وجل .. هذا المكان الصامت المهيب .. أخذت أنزل واقرأ الأية ثم يراودنى خاطر يصرفنى ثم اعود وهكذا لفترة .. آيات القراءن حينما تنتبه إليها تفهم أهمية كل كلمة .. (أقم الصلاة لذكرى) .. (خذها ولا تخف) .. (فقولا له قولا لينا لعله يتذكر او يخشى) .. إن القراءن علم لا قرار له وليس فقط كتاب نقرأه كى نأخذ ثواب عليه .. كلمات تلخص خلق الله للكون وحكمته ومعاملته لخلقه .. وذات الكلمات يمكن أن تسمعها فى مكان وزمان لا تفهمها وتجدها واضحة جدا فى موضع آخر .. بحسب استعدادك للتلقى لذلك لا يكون شاغلك أخذ الثواب بقدر ما تريد ان تفهم وتنور عقلك بكلام الله عز وجل إلى خلقه .. أنهيت ذلك الجزء الغريب من الجبل وأقتربنا من النهاية ففضلت أن أجعل المجموعة أمامى تلك المرة لأنى سأفعل شىء غريب .. بدأت اكلم نفسى بصوت واضح كما اكلمك تماما .. بل وأكلمها وكأنها شخص آخر واناديها بأسمها وأتحدث معاها .. اسألها عن كل شىء .. دخلت فى اعماق كثيرة لا اقف عند تفسير سطحى اعتدت دائما أن اقنع به نفسى .. بل اتوغل اكثر واحلل المخاوف والذكريات إلى تفسيرات عقلانية بعيدة عن الشعور السلبى المحض والمقاومة التى لا مبرر لها  .. شاهدت مرة فى فيلم (كونج فو باندا) الجزء الثانى كان بطل الفيلم دائما يصل لجزء معين من الذكريات ويقف خوفا من التوغل اكثر .. يخاف ان يرى اسوء كوابيس نفسه .. ثم بعد ذلك اخبره حكيم : "لا تقاوم دع الذكريات تجرى كماء النهر"  .. عندما فعل ذلك اكتشف حقائق اخرى تدحض كل مخاوفه .. يجب ان تتعلم كيف تواجه مخاوفك لا تدفنها وتصبح شجاعا تجاه أى فكرة وشعور ..حينما تفعل ذلك ستكون دائما بعد امر الله سيد نفسك لأنك ترى كل جزء منها ولم تعد تهرب منها ولم تعد هى تختبىء منك ..

وصلنا إلى بيت رجل بدوى عجوز فى الجبل وارتحنا عنده قليلا .. هذا البيت كان كالأشارة إننا اقتربنا من الأرض ..  أكملنا الرحلة وحينما وصلت لقاع الجبل نظرت للجبل وبكيت  .. أحببتك ايها الجبل كثيرا وأحببت كل درس تعلمته فيك .. حانت لحظة فراقك وانت على صمتك وهيبتك قد تكلمت كثيرا واخبرت روحى بما لم افهمه من قبل .. لا ادرى ان كنت سأراك ثانية ام لا لكنى أشكر الله كثيرا أن ساقنى إليك وحفظنى بين جنباتك ..



رحلة كاترين - الجزء الأول







حينما ذهبت لجبل (كاترين)  كنت اريد هدفا واحدا فقط .. أريد أن أصعد للسماء وأقترب منها .. كنت أريد أن أفهم وأرد على أسئلة ترد بخاطرى .. هناك تجلى الله عز وجل للجبل وهناك سمعته الأرض ..  كان عندى اسئلة لله وكنت اشعر انه هناك سأجد اجاباتها فعزمت على الخروج وتمنيت ألا تكون كأى رحلة خضتها ..

لن احكى عن رحلة الذهاب ذاتها الى كاترين كان يوما عاديا تقريبا قضينا أغلبه فى الحافلة ووصلنا وتعرفت على الصحبة التى لم تتعدى 7 أفراد .. تعشينا وخرجنا نتمشى قليلا أكثر ما لاحظته انه لا احد فى تلك البلدة .. كنا نمشى وحدنا فى الظلام وعمدان نور بعيدة تخبرنا أين نحن .. كنت اتعجب كيف يعيش هولاء الناس فى البرد والعزلة واتسائل من منا أسعد؟! .. تمنيت للحظة أن أعيش هنا للأبد لكن المكان صامت تماما .. الجبال لا تتكلم والناس غير موجودة والبرد يدفن رغبات كثيرة للحركة والخروج .. جلست أنظر للسماء والنجوم وكان منظرها ساحرا وإن كنت قد أجلت الحديث بيننا حتى أصل إليها فى الغد ..

رحلة الصعود ...
بدأت الرحلة صباح ثانى يوم .. كان يقودنا مرشد من البدو فسألته فى بداية الطريق ما نصيحتك لنا ؟! .. قال : أنظر إلى تحت قدميك .. لا تحاول النظر الى الأعلى حتى لا تقع وأيضا كى لا تهبط عزيمتك وتستثقل الطلوع .. الحق إنها كانت أفضل نصيحة على الأطلاق لأنى حينما حاولت أن انظر لقمة الجبال كان الأمر يبدو رهيبا .. لازال امامنا كل تلك المسافة وقمة (كاترين) أصلا لا تبدو لك إلا فى اخر الرحلة لأنها أعلى قمة بينهم .. كنت امشى بخطى بطيئة جدا ومن هنا بدأت أفهم شىء لأول مرة ادركه فى حياتى بذلك الوضوح .. أن تلك الرحلة آخرها شىء عظيم للغاية .. هناك نور أسعى إليه وأريد رؤيته لكنى لا اراه من ذلك المكان لدرجة أحيانا تبدأ تتسائل هل ستراه حقا؟! .. نعم النور موجود فى آخر الرحلة .. وهو يستحق كل المشقة والصبر والتعب لأجل رؤيته .. لا يهم أن تسرع .. المهم أن تمشى بخطوات ثابتة دائمة مؤمنا إنك ستراه فى النهاية .. لو شككت أو يأست ستقف فى وسط الجبل تموت من البرد والحيرة .. لابد أن تكمل للنهاية وتصبر .. ما نراه فى الدنيا هو تصغير لمعانى الحياة .. رحلة صعود الجبل والشمس فى النهاية هى رحلة الحياة ونور الله عز وجل فى المنتهى .. الواحد طوال رحلة الصعود راودته كل المشاعر المختلفة .. السعادة ثم الملل ثم الحزن ثم التعب والحر والبرد والإنتعاش .. استغربت للغاية فى خلال 7 ساعات راودنى كل ذلك وكل شعور لا يستمر ابدا .. كل ساعة أو أقل يتبدل الحال وتختلف معالم الطريق وتبدأ فى الظهور قمم جبلية أخرى وألوان ونباتات تشد انتباهى فتصرفنى عن شعور ماضى لأفكر فى شىء آخر .. لا شىء يدوم وأنا أحدث نفسى بين الحين والأخر سترين النور فى النهاية اصبرى .. وبدأت أدرك شيئا آخر أن الرحلة بالفعل فيها تفاصيل كثيرة .. كنت ألتفت لصحبتى وأحكى معهم ثم أنظر لجمال الجبال .. يتعرج الطريق ونبدأ فى تسلق قمة اخرى ويتبدل الجو وتغيم الشمس وتسطع من حين لأخر .. لما لم يجعل الله تفاصيل الرحلة كلها واحدة ؟!.. أليس المهم ما سأراه فى النهاية .. لو كان ذلك لكنت لازمنى شعور واحد طوال الرحلة وربما صودف أنه كان اليأس مثلا ولم يتغير أى معالم مما حولى فسيطر علىَ حتى وقفت تماما ... هو يقلب الحياة فى أرواحنا ويقلبها خارجها برحمته ..

وصلنا لقمة الجبل قبل الغروب بقليل .. الجو كان باردا للغاية وكان هناك غرفة بسيطة التفاصيل للمبيت .. صعدت إلى غرفة (كاترين) بأعلى وكانت مغلقة وجلست على الأرض بجوارها .. هيبة السماء والشمس وعظمة المنظر لا تكاد تصفها كلمات ابدا .. كانت الشمس قريبة وتنزل بسرعة والسحب تتمدد وتنتشر كما لو أن أحدا ينفخ فيها  ..  لا يمكن ان يخلق ذلك الجمال إلا عظيم .. كل من ظل يخبرنى وماذا لو كان الله غير موجود !!.. وماذا لو كانوا آلهة .. وماذا الذى يثبت أى شىء !!.. كمية من الهراء توضع أمام نور عظيم لا شك فيه .. لا وصف له إلا بالعمى لأنك يمكن أن تنكر شيئا لا تراه لكن الكون ينطق بأسم خالق عظيم دون حتى براهين ولا أستنتاجات.. كان الجو يزداد صقيعا لكنى لم ارد ان أغادر تلك اللحظة ابدا .. جمالها والحنين لذلك السلام والنور آسرنى ولولا ضعف جسدى فى مقاومة الثلج لظللت هناك للأبد .. هذا شكل الشمس والسحاب فما بالك بنور الله .. ما بالك لو رفعت رأسك ورأيته أيمكن أن تشعر بسعادة مثلها .. الكون كله جماله ينطق بالحنين لله فما بالك حينما يكشف الله الستار عنه ونراه فعلا عز وجل .. كيف سيكون الجمال حينئذ ..  اللهم أجعلنا نراك فى الأخرة .. اللهم أجعلنا لا نضل حتى تقبض أرواحنا وأجعلنا قريبين منك وأجعل قلوبنا مخلصة موحدة لك ..







الاثنين، 23 مارس 2015

تتبع الخيط جيدا ..

فى كام حاجة حصلت كده اكدت لى ان الواحد مش ماشى فى الدنيا دى بالصدفة .. ربنا بيمشيك فى طريق عشان عايز يفهمك حاجة فتتبع الخيط جيدا ..
من كام يوم كده كنت بأفكر فى موضوع CV وطريقة التقديم فى العمل .. كنت بأفكر انه من السخف والملل للغاية ان يجى عليك كميات من البشر كلهم مجرد ورقة عقيمة وكأنهم بلا روح ولا صفة مميزة .. من فترة ليست بالطويلة قابلت حاجة اسمها interactive resume ودى اصبحت منتشرة جدا بره .. إن واحد يعرض سيرته الذاتية بطريقة غير عادية .. على شكل قصة .. فيلم .. لعبة .. من الاخر بيعرض مؤهلاته بطريقته الخاصة وجدت ان الموضوع شيق جدا ويجعلنى كواحد يتلقى الآلاف السير الذاتية كل يوم يبدأ ينتبه لشىء غريب عن الجانب الممل التقليدى فى البشر .. وبعدين لقيت واحدة قريبتى بتكلمنى عن موقع للأطفال بيستنتج شخصية طفلك من اللعب اللى بيحبها .. وعملت تجربة انها وضعت ألعاب مختلفة قدامه فلقيته بيرتبها بشكل معين تدل على انه هناك مراكز فى العقل عنده شغالة اكتر من غيرها .. الموقع ده بيقولك شخصية ابنك بتميل لأيه وممكن تطورها ازاى .. وجدتها تخبرنى انها وجدتنى فى واحدة منهم .. دخلت واخذت اقرأ وكل مدى ادرك الجريمة اللى تم ارتكابها فينا .. لقيت صفات يتم انتقادى عليها بشكل مستمر هى جزء اساسى من شخصيتى وانها مش عيب ولا حاجة بالعكس هى جزء من موهبتك او نتيجة لها .. بدأت ادرك هو ليه الواحد احيانا بيكره نفسه لأنه مش قادر يكون زى ما هما عايزين وفى نفس الوقت اقنعوه ان اللى بيعمله غلط لأنه مش زى الناس ..
بعدها بفترة كنت باقرأ فى الرياضيات للمرحلة الابتدائية فوجدته ملىء بالقسمة وتلك اكثر عملية كنت اكرهها فى الحساب .. وفى نفس اليوم لقيت واحد بيتكلم عن نظرية اسمها (البناء) او (Constructivism) فى الرياضيات وهى فلسفة حديثة فى التفكير الأنسانى عموما بتقول ان المعلومات لا تظل فى عقل الأنسان ولا تقدم جديدا ابدا إذا كانت بالتلقين والحفظ .. المعلومات يتم بناءها وعقل كل واحد فينا بيحللها ويترجمها بطريقته الخاصة .. عملية البناء تلك تكون جامعة بين فطرته ومواهبة الذاتية مع ما يراه كل واحد فينا جوه بيئته ومجتمعه.. ملخص النظرية ان العلم والمعارف يتم استنتاجها ولابد ان يتم التعليم بتلك الطريقة حتى نظريات الرياضيات المعروفة لابد ان يستنبطها العقل بنفسه وبالتالى ثورة فى طريقة التعليم لها طرق واساليب يتم تدوالها حاليا .. شاهدت ذلك الفيلم الصغير عن طريقة استنتاج ناتج عملية قسمة بسيطة :
وده فيديو اخر عن طريقة استخدام فلسفة البناء فى التعليم
https://www.youtube.com/watch?v=ELPsKhd9lWs
الغريب فى ذلك الموضوع هو بدايته .. انت بتبدأ بفكرة صغيرة وتلاقي شويه حاجات بتحصل قريبة فى الزمن تؤكدها او على الأقل تتحدث فى محيطها .. فكرة صغيرة بدأت بأدراك عبثية الطريقة الحالية للعمل فى الشركات لذلك دائما ألاحظ ان الموظفين عادة بيكونوا شبه بعض بشكل ممل مش لأنهم كده بل لأنهم اقتنعوا ان الشركة اللى جمعتهم عايزاهم يفكروا بشكل معين ويهتموا بحاجات معينة وبالتالى المحصلة هو جزء ضيق متكرر من مساحة التفكير ربما يخدم المصلحة لكنه لا يصنع ابداعا .. ثم الاقى الخيط جاب خيط تانى حتى وصلت لفلسفة جديدة فى العلم تؤكد انك عشان تطلع احسن ما فى الأنسان لابد ان تؤمن ببصمته المميزة التى لا يتشابه فيها مع احد وتحترم ذلك وتوظفه (بل دعنى اقول تطلقه) بأحسن الطرق ..

الأربعاء، 18 مارس 2015

الأوركسترا






اثناء تدربى على الجيتار كان هناك جزء يتعلق بالعزف الجماعى .. إن المجموعة كلها تعزف بشكل متناسق ولو واحد فيهم وقع لا يرتبك ويهتف قائلا :(انا وقعت استنونى يا جماعة) .. هو يركز وينتظر اللحظة المناسبة لحد ما يعرف يركب معاهم الموجة تانى .. لاحظت ان العزف لا يتوقف لمجرد انك فارقته .. ان الدنيا لن تقف لو يأست ووقعت .. انت لوحدك اللى هتقعد على جنب تبكى همك لو لم تقرر ان تنهض وتكمل الحياة .. اللى بيحصل ان كل عازف بيجى عليه وقت ويتعب ويترك المجموعة.. كل واحد له لحظة جسده وعقله ينهك وهى مختلفة فى التوقيت والتكرار وذلك لا يعيبه .. فى واحد عزف الاخرين يدفعه للتحرك .. فى واحد مستنى اللحظة المناسبة عشان يقدر يدخل ويتناغم مع السيمفونية .. وفى واحد وجد الموضوع صعب للغاية وقرر يترك الأمر برمته ويكتفى بمشاهدة الاخرين .. هى فى النهاية لا تتوقف ولا تنتظر .. هى فى النهاية سيمفونية متوازنة تزداد قوة وجمالا بك ..مش مهم تفضل تعزف للأبد لأن ده مش هيحصل .. المهم تتعلم ازاى تستعيد قوتك وتشحذ تركيزك لركوب الموجة فى الوقت المناسب ..

ملحوظة اخرى .. السيمفونية بتفرق بوجودك لما يكون اللحن اللى بتطلعه يختلف عن باقى العازفين .. مش فكرة قوته واجتهاده هو ممكن يبقى حاجة صغيرة جدا .. دقة طبلة .. سكسكة .. بس صوت تحس الأذن معاه انه اضاف رنة مختلفة عن الوتيرة العادية .. مش كلنا هنبقى الشخص ده ومش مهم برضه .. عازفى الوتريات مثلا بنفس اهمية عازف البيانو ليس هناك معنى للأوركسترا بدونهم ..  معنى الأختلاف ليس انك (مش زى أى حد) او انك بتعزف نغمة منفردة بل إنك تملك حرية الأختيار .. اختيار بتحب تعزف ايه بصرف النظر كام واحد فى الفرقة مثلك .. فى الاوركسترا ينصهر تماما مفهوم (الأنا) ويذوب كل عازف فيما يعشقه ..  ذلك يختلف كثيرا عن الثقافة السائدة حاليا التى تهتف بأسم الرجل الواحد ولكنه يتفق مع ما اعتقده فعلا (كالبنيان يشد بعضه بعضا) ..



المراقب

 
 ظلت السمكة تنظر للظلام الدامس خارج حوضها .. تركها صاحبها هانئة تلك الليلة على غير العادة .. لا دقٌ على الحوض ولا رجرجة مياه ولا عيونه الساخرة تحوطها .. لم يتركها ليلة إلا ومارس طقوسه السخيفة تلك وكأن ليس فى منزله غيرها ..  أخذت ترتفع وتقفز فى الماء سعادة بحريتها .. هى حرية موهومة لكنها كل ما تملك فى لحظتها فلتنفقها حتى آخر قطرة .. بدأت تقترب من حدود الحوض وتضربه بنفس قوة الحلم الذى تراه .. لقد كانت دائما ترى الشرخ وتدفق المياه من الحوض واضحا فى حلمها .. تحس بكل مشاعر الحلم وكأنها حقيقة .. بقى شىء واحد فقط .. أن يتحقق بالفعل .. ابتعدت ثانية وسبحت بقوة نحو حدود الحوض لكن شيئا ما جعلها تفزع إلى الخلف وتهرع لقبوها .. لقد ظهرت عيناه اللتان تراقبانها من خلف الحوض ..

ضحك الرجل كثيرا وأخذ يدق على الحوض .. كل مرة كانت السمكة تفزع منه كان يزداد مرحا ويشعر أنه اتخذ قرارا سليما حينما قرر أن يأتى بذلك الشىء الجميل كى يغازله .. ظل يغنى ويدق أكثر لكنه فى لحظة توقف والتفت خلفه  ..



دائما ما يشعر بخيال أحد خلف ظهره .. جسد عظيم يكاد يرى ظله لكنه ما إن يلتفت حتى يختفى .. لم يره قط لكنه يشعر بوجوده وعيونه فى كل حركة يفعلها أو حتى خاطرة يحدث نفسه بها .. تلك العيون تدخل معه حجرته .. حمامه بل وملابسه .. وهو يطيل النظر لتفاصيل فتاة جميلة .. وهو يتحسس خاتما ذهبيا غفل الجواهرجى عنه .. وهو يتلمس ذيل قطة ويتخيل صراخها ومواءها وهو يتلذذ بحرقه .. حتى وهو يدق حوض السمكة الذى اشتراه بماله .. كم كانت تلك الأحلام تسعده بشدة لكنه لم يجرؤ يوما على أكثر من لحظات يختلسها قبل تجسد الظل فى خياله ..  لم يكن يدرى أذلك الظل صديق يشابهه ويحثه على أحلامه أم قاضٍ يحاكمه .. لم يكن يعرف هل يوافقه أم يسخر منه .. أمين أم غادر سيأتى فى أى لحظة ويشج رأسه .. لا يعرف عنه أى شىء سوى انه يرافقه وذلك كفيل بأن يدفن أحلامه التى يخجل أن يراها أحد سواه .. ولأنه غير واثق من حقيقة ذلك فقد قرر أن يستقر فى جزيرة ما بين ضفتى اليقين بوجوده أو عدمه ... جزيرة هادئة لا تحرمه لحظات مختلسة لكنها تسحبه بقوة كلما شطح بأحلامه بعيدا .. 



ذات يوم دخل عليه رجل ذو سلطة ومال .. كان يعلم جيدا لما هو موجود هنا وفى مكتبه بالذات .. على كل الوظائف المتاحة فى الشركة لم يجدوا غيره كى يضعوه فى ذلك المنصب الحساس .. ربما لأنهم رأوا امانته .. ربما تشمموا خوفه .. لا يهم .. هم اختاروه بثقة شديدة تجبره على احترامها .. لكن تلك المرة الرجل كان يعرض الكثير .. كثير لدرجة تدفعه للإبحار من جزيرة الشك تلك والاستقرار على إحدى ضفتي اليقين.. لكنه أراد أن يتأكد .. ذهب إلى طبيب عيون وحكى له عن تلك الظلال فى جانب عينه .. أخبره أن نظره سليم تماما اللهم إلا بعض الإجهاد من فرط السهر .. لم يعد هناك شك .. هو موهوم والأقسى من ذلك سنوات عمره التى قضاها فى قيده وخوفه .. أبحر بالمركب وحمل عليها  أمانيه وأحلامه إلى الأرض التى تمنى لمسها ..



نقلته الرشوة إلى فيلا كبيرة .. أحضر لها العناصر الأساسية لأحلامه .. فراش فخم .. قطط فارسية جميلة .. مرآة كبيرة تكشف جسده كله .. أشكال وألوان من الخمر الذى يعينه على نسيان وهمه لو آتاه ثانية .. وبدأ يمارس ما لم يتخيل يوما أنه يجرؤ على فعله .. بدأ يتسلل إلى قلبه شعور جديد .. أصبح شجاعا وجريئا حقا وأحلامه التى كان يراها داخل بلورة ضبابية أصبحت تتمدد وتزداد تفاصيلا اكثر .. لدرجة أنه تمنى لو يقفز بداخلها بالفعل لأن الواقع احيانا يأبى عليه أن يفعل ذات الحلم بالضبط ..


فى ليلة استعاد ذكرى مراقبه .. استغرب كثيرا أنه تأخر إلى ذلك الحد واستغرب أكثر أنه أصبح مجرد ذكرى وليس عيونا حقيقية يشعر بها .. مجرد فكرة كانت موجودة حين كان مؤمنا بها ... تعجب كثيرا كيف يمكن للإيمان أن يجعل الإنسان يتوهم شيئا ويشعر به وكأنه موجود .. لكن على أية حال هو الأن أيضا مؤمن .. مؤمن أنه وهم وعليه استكانت مخاوفه وارتاح .. لكن أحيانا كان يأتيه هاجس من نوع آخر .. كان يشعر بالاشمئزار من منظر زوجة مديره وهى نائمة أمامه .. لقد امتص جسدها كما امتص مديره روحه وثقته بنفسه ... كان ينتقم منه فيها لكنه فى لحظة كرهها وكره نفسه .. طعم الانتقام فى الأول قوى تمنى تذوقه لكنه حينما ابتلعه ترك فى حلقه مرارة لم يمحُها إحساسه بالتشفى أبدا ..


شعر بالاختناق تلك الليلة فوق العادة فنزل إلى شارع البحر يتمشى .. وجد فتاة صغيرة جميلة متسخة الوجه والفستان .. ظلت تنادى على مناديل والناس لا تلتفت إليها .. ربما اشمأزوا من قذارتها .. آتاه خاطر .. ماذا لو رماها فى البحر !! .. أخذ يتخيلها وأمواج البحر تغسلها وتدفن صرختها .. أخذ يتخيل نفسه وهو ينظر إليها ويضحك ويعوض مرارة قلبه بمشهد فكاهى كهذا .. قرر أن ينتظر رحيل الناس ويبدأ فى تمثيل وإخراج خياله فورا ..



وبينما هو جالس أمام البحر أخذ يستمع لأصوات أقدام وهى تعلو وتختفى .. شعر فى تلك الحظة أنه بين عالمين منفصلين .. نصف أمامه فيه بحر ومركب وحيد وقمر فضى يلقى لآلئه فوق الموج ... والنصف الآخر دقات أقدام يعلم أنها تحمل أجسادا من لحم ودم .. هو يستطيع أن يسمع كلاهما لكنه لا يرى سوى واحد فقط .. أراد أن ينسى ذلك العالم الخفى الذى لا يراه فأصغى السمع للريح وأمواج البحر فأصبحت الأصوات مجرد دقات بعيدة تقوى وتخفت .. لكنه رغم ذلك غير قادر أن يمحوها من عقله .. ما جدوى أن تسمع أذنه ما لا يراه .. هل معنى ذلك أن العين ليست دليله الوحيد على وجود الأشياء .. وأن هناك حواسا أخرى تشعر وتحس وهى صادقة فى ذلك .. دقات الأقدام ليست وهما وكل حركة وهمس يسمعه يدله على وجود شىء يتحرك بالفعل ..بدأ يشعر باقتراب مركبه من جزيرة الشك ثانية فأسرع بتشتيت ذهنه إلى هياج أمواج البحر.

 

وبينما هو كذلك اقترب منه سائر .. لم يشعر به إلا وهو خلفه مباشرة .. توقف الرجل وظل صامتا لحظات فشعر بالخوف ... وقبل أن يلتفت إليه أكمل الرجل طريقه .. بدأ يتحسس جيبه ورأسه خوفا أن يكون السائر قد سلبه شيئا وهو غير منتبه .. وجد كل شىء مكانه فتنفس الصعداء .. هو قد أعطى ظهره للناس ولا يدرى ما الذى يمكن أن يغتنموه بتلك الفرصة الذهبية .. يعجب ما الذى يمنع أيا منهمأ أن يدفعه فجأة أو حتى يهمس فى أذنه بكلمة قوية تفزعه .. لو كان مكان السائرين لفعل .. بالتأكيد هم يحلمون مثله .. بالتأكيد يملكون ذات الملل والسخف فى حياتهم بدرجة كفيلة بأن تجعلهم يطلقون العنان لجنونهم .. لكنهم لا يفعلون مثلما كان هو منذ زمن .. كأنهم يملكون ذات المراقب لكنه تلك المرة أحبه .. لأنه على قدر ما قيدهم على قدر ما منع شرهم عنه ..



نظر إلى المركب وتساءل عن كم العيون التى تتابعه عبر الشط  .. ليس هو وحده من جذب انتباهه بُعد المركب ووحدته فى البحر .. لكنها عيون بلا قيمة إذا المركب غرقت لن تفعل شىيئا سوى الصياح والضجيج .. عيون تكتفى بالنظر والتعليق فقط .. عيون عاجزة عن مد أياديها لإنقاذ غريق واحد أو حتى لبناء جسر للضفة الأخرى  .. نظر إلى السماء فوجدها تغطى البحر والقمر والمركب .. نظر للشط الآخر وجده بعيدا لكن الرياح تدفع المركب والقمر يضىء طريقه والأمان ينتظره .. وجد الطفلة الصغيرة تقترب منه وتمد يديها بمنديل .. جفنا عينيها كأنهما شاطئان بينهما ذات البحر الهائج الحزين .. تفتحهما كل يوم على رحلة جديدة لا تدرى نهايتها .. لكن تلك الرحلة داخل عين تراقبها .. عين تحمى وتحفظ ... تغمض وتظلم لأنها تمنع أذى يقترب منها وتفتح كى ترى نور الفجر وجمال الحياة ... لأول مرة شعر أنه يحب وجودها .. أدرك أنها لا تخيفه ولا تقيده بل أمان وجمال حياته أنه بداخلها ..

ربت على رأس الطفلة ذات العيون الحلوة .. ومضى فى سبيله ..